نطرح هنا، كاستنتاجات عامة للأوراق الخاصة بمشروع النيل الأزرق، بعض الأفكار المقترحة بشأن مجتمعات ما قبل التاريخ التى شكلت موضوعاً لدراسة علماء الآثار الأسبان العاملين في السودان الأوسط خلال التسعينات من القرن المنصرم. اشتمل المشروع على أعمال مسح لمنطقة وادي سوبا الحسيب إلى الشرق من الخرطوم وتنفيذ تنقيب في موقعين للعصر الحجري الوسيط (الميزوليتي) وموقع من العصر الحجري الحديث (النيوليتي) في منطقة وادي سوبا. جمعت المعطيات المستقاة من مصادر مختلفة في محاولة لتركيب رواية تاريخية. تمت ملاحظة آثار بعض الفجوات الآثارية في المنطقة، بخاصة في بداية العصر الميزوليتي ونهايته، حيث شهدت هذه الأخيرة بروز التراتب الاجتماعي وتراجع دور المرأة. تم تفسير الفجوة الآثارية في نهاية العصر النيوليتي بحسبانها ناتجة عن عائق أمام الانقسام الاجتماعي.
تم افتراض يقول بأن ثقافات مقاومة مبكرة وتحركات سكانية باتجاه الجرف الإثيوبي بوصفه منطقة لجوء آمنة قد تمت وسط السكان النيليين - الصحراويين ومنطقة الساحل الشرقي.
تنتمي المواقع الميزوليتية التى تم مسحها والتنقيب فيها في منطقة النيل الأزرق من قبل مشروع البحث الآثاري الأسباني، والذي نُشرت نتائجه في هذا المجلد (Fernándezet al. 2003a, 2003b)، إلى "المركب التقني" الهولوسيني الصحراوي - الساحلي المسمى بمصطلحات عديدة مختلفة. تسمية "آثارية جغرافية" موفقة تم طرحها (Hays 1971: 134)"أسلوب أفق الخرطوم Khartoum-HorizonStyle" تشير إلى الزخرف المتجانس للفخار الذى تم الكشف عنه للمرة الأولى في موقع الخرطوم (Arkell 1949a). الفكرة هي أن أسلوب الفخار نفسه انتشر من هنا إلى مجموعات عديدة مختلفة في الصحراء والساحل، والتي استنبط وجودها السابق قبل انتقال الفخار من تقنياتها الحجرية المختلفة (Hays 1971: 136). تكشف المعطيات الآثارية الحديثة وجود طور قصير "قبل فخاري" أو "ايبي باليوليتي" في الصحراء، وضع كرونولوجياً في الفترة من بداية الظروف الرطبة وانتشار تقنيات الفخار. تم جمع بينة من شمال مالي والنيجر (Camps 1974: 214-6)، ومن صحراء مصر الشرقية (Gabriel 1977)، ومن شرق السودان (Marks 1987;Elamin1987)، أو صحراء ليبيا الغربية (CremaschiandDiLernia1998; Garcea2001). سمي هذا الطور الثقافي في المنطقة الأخيرة بـ "الأكاكوس المبكر"، وأؤرخ بـ 9800 - 9000سنة مضت. تميزت الصناعات الحجرية لهذه الفترة بتواتر عال للنصال المدببة الظهر كما هو الحال بالنسبة للصناعات المعاصرة لها في المغرب (القفصية) (Tixier1963; Camps 1974)ووادي النيل المصري (القارونية والشمارقية) (Wendorf1968; WendorfandSchild1976).
بحوالي 9000سنة مضت، على أية حال، تبنت المجموعات على امتداد الصحراء إنتاج الفخار وفق أسلوب زخرفة مماثل بصورة واضحة بحيث لا يُظهر أية اختلافات على امتداد مساحة بهذا القدر من الاتساع. استخدم أسلوب الطبع بالمهزة نفسه من مناطق الأطلسي، مثل الصحراء الغربية (Almagro1946: 200-1)أو موريتانيا(Commelinet al. 1992: fig. 3, a-f)، إلى المناطق القريبة من ساحل البحر الأحمر، كما هو الحال في طور ساروبا بمنطقة خشم القربة (Fattovichet al. 1984: fig. 3; cf. Arkell 1949a: 116; Garcea1993: 189). وجدت تقنية الطبع المحوري المزدوج التناوبي التى تمثل شكلاً من نظام الطبع العام بالمهزة، أيضاً على امتداد الصحراء والنيل(Garcea1998: 93). انتشر الخط المنقط المتموج بكثرة أيضاً في منطقة الصحراء، لكنه ظهر في وادي النيل في تاريخ لاحق (Ibid.; Caneva1983; Caneva and Marks 1990; Caneva etal. 1993).
لازالت الأسباب الكامنة وراء مثل عملية الانتشار السريعة لموضوع ثقافي منفرد على امتداد مساحة بهذا القدر من الاتساع (أكثر من 6000كيلو متر عرضاً) بحاجة إلى توضيح. طالما أن الأفق الفخاري في معظم المواقع المعروفة هو المحتوى الثقافي الأول بعد الفجوة الديموغرافية للبليستوسين المتأخر، فإن إشكالية أصول الفخار هي في الحقيقة مشكلة الإقامة الإنسانية المجددة في منطقة الصحراء. حالات مماثلة للانتشار السريع للفخار، مثل الفخار الدانوبي الخطي في أوروبا النيوليتية المبكرة (Whittle1985)أو فخار نوع اوري لدى البانتو في عصر الحديد المبكر في شرق أفريقيا (Phillipson1977a)تم تفسيرها بحسبانها نتاجاً لتوسع المجموعات الإنسانية على امتداد مناطق جغرافية متسعة.
فسر سوتون (1974; Sutton1977)في مقالتين نمطيتين نالتا انتشاراً واسعاً المركب التقني للفخار بالمهزة بحسبانه نتاج الهجرة الأولى للشعوب الزنجية، المتحدثة بتنوعات قديمة لتشكيلة اللغات النيلية - الصحراوية الحالية، خارج موطنهم في أفريقيا الوسطى (الثاني سيكون توسع البانتو، بعد عدة ألفيات لاحقة). كان التوسع مدفوعاً ببداية ظروف رطبة جديدة في الصحراء، وتبنت المجموعات المهاجرة بالتالي توجهاً اقتصادياً يعتمد موارد الأنهار والبحيرات، من هنا التسمية المقترحة "الحجرية المائية aqualithic" لهذا المركب الثقافي. يعتقد سوتون بأن الحركة قد دفعها توسع الغابات الاستوائية في أفريقيا الوسطى (Sutton 1977: 27)، وهو ما يبدو أن المعطيات الجديدة تقدم دعماً له. بعد أن كانت محصورة في "ملاذات" قليلة أثناء ظروف الجليد القصوى في نهاية البليستوسين، تمددت الغابات المطيرة لتصل إلى قمة توسعها بحوالي فترة الهولوسين الأوسط (LiethandWerger1989). طبقاً لنظرية معروفة لكنها عرضة للمجادلة (Bailey and Headland1991)، كانت الغابات الاستوائية بيئة مغلقة أمام بني الإنسان قبل تثبيت التقنية النيوليتية. بالتالي كان رد فعل جماعات الباحثين عن الطعام أمام تمدد الغابات هو الهجرة نحو مناطق أكثر انفتاحاً وفي الشريط الشمالي المباشر "لوسط أفريقيا" سيكون هذا الاتجاه نحو الشمال.
بالنسبة للسمات الأنثروبولوجية الفيزيقية، فإن فكرة انتشار عنصر زنجي أساساً عبر الصحراء خلال الهولوسين، والتي كانت شائعة عندما كتب سوتون مقالتيه بعد المعطيات المستقاة من تنوعات هياكل منفردة من الخرطوم المبكرة ومواقع أخرى (cf. Derry inArkell 1949a: 30-3)، فقد تم رفضها فيما بعد على أساس معطيات متنوعة تدعم وجود سكان شماليين من نوع مشتا (Petit-MaireandDutour1987). أظهرت أبحاث حديثة اعتمدت المتغيرات الوراثية، على كلٍ، وجود تنوع وراثي مستمر في كل من منطقتي النيل والصحراء بين السمات الزنجية السائدة في الجنوب والقوقازية في الشمال (TayandSaha1988; Fox 1997). غض النظر عن أن هذه الحقيقة قد فُسرت بحسبانها تأتي من تدفق المورثات أو الاصطفاء المحلي، فإن السيناريو هو واحد يمثل التنوع التدريجي على امتداد المنطقة. تظهر مناظر مبكرة في الصحراء الوسطى، أن أسلوب "الرؤوس المستديرة" المعاصر تقريباً للعصر الميزوليتي، أشكالاً بشرية عادة ما تفسر بحسبانها تصور "زنوجاً" (Sansoni1994;1998). في فترة "البقريات" التالية والمؤرخة بعد بداية تربية الحيوانات في الألفية السابعة قبل تاريخ اليوم، فإن وجود أشكال عرقية مختلفة مشهود في المنطقة، مع الادعاء بأن الأشكال الزنجية سابقة للأوربية (Muzzolini1986; Gallay1987).
من وجهة نظر لغوية، تقوت العلاقات بين اللغات النيلية - الصحراوية الحالية والتوسع الصحراوي - الساحلي عن طريق أعمال العديد من الباحثين في السنوات الأخيرة (Bender 1982; Blench 1993: 136; Ehret2000: 281-9). آثارياً، يبدو أن فرضية الأصل الجنوبي قد تقوت بدورها، حيث أن الكميات الكبيرة من الهاربونات العظمية (المؤشر المتحجر الآخر للمركب إلى جانب الفخار) والتكيف الاقتصادي المائي العام قد تم تسجيله بالنسبة لأفريقيا الوسطى، بتواريخ مبكرة بالنسبة لمواقع الكونغو مثل ايشانجو وكاتندا (McBreartyand Brooks 2000: 503-6, 510-13). هذا العمر الأقدم يبدو أنه يتطابق بل ويسبق الأهمية المدعاة لوادي النيل أو بحيرات شرق أفريقيا كمناطق أخرى لأصل الأحداث الثقافية للهولوسين الصحراوي (Stewart1989).